الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قلت: والزَّجَّاج لم يرتضِ هذه المقالة، أعني كون قوله: {لولا} متعلقةً ب: {همَّ بها} فإنه قال: ولو كان الكلامُ ولهمَّ بها لكان بعيدًا، فكيف مع سقوط اللام؟ يعني الزجاج أنه لا جائزٌ أن يكونَ وهمَّ بها جوابًا ل {لولا}؛ لأنه لو كان جوابَها لاقترن باللام لأنه مثبت، وعلى تقدير أنه كان مقترنًا باللام كان يَبْعُدُ مِنْ جهةٍ أخرى وهي تقديمُ الجوابِ عليها.وجواب ما قاله الزجاج ما قدَّمْتُه عن الزمخشري من أَنَّ الجوابَ محذوف مدلولٌ عليه بما تقدَّم. وأمَّا قولُه: ولو كان الكلام ولهمَّ بها فغيرُ لازمٍ؛ لأنه متى كان جوابُ لو ولولا مثبتًا جاز فيه الأمران: اللامُ وعَدَمُها، وإن كان الإِتيان باللامِ وهو الأكثر.وتابع ابنُ عطية الزجاجَ أيضًا في هذا المعنى فقال: قولُ مَنْ قال: إنَّ الكلام قد تَمَّ في قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتَ بِهِ} وإنَّ جوابَ: {لولا} في قوله: {وهمَّ بها}، وإن المعنى: لولا أن رأى البرهانَ لهَمَّ بها، فلم يَهُمَّ يوسفُ عليه السلام قال: وهذا قول يردُّه لسان العرب وأقوال السلف أمَّا قولُه: يردُّه لسان العرب فليس كذا؛ لأنَّ وِزانَ هذه الآية وِزانُ قولِه: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} [القصص: 10] فقوله إن كادَتْ: إمَّا أن يكون جوابًا عند مَنْ يرى ذلك، وإمَّا أن يكونَ دالًا على الجواب، وليس فيه خروجٌ عن كلام العرب. هذا معنى ما ردَّ به عليه الشيخ. قلت: وكأن ابن عطية إنما يعني بالخروج عن لسانِ العرب تجرُّدَ الجوابِ من اللام على تقدير جواز تقديمِه، والغرض أن اللامَ لم تُوْجد.قوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ} في هذه الكافِ أوجهٌ أحدُها: أنَّها في محلِّ نصب، فقدَّره الزمخشري: مثل ذلك التثبيت ثَبَّتناه. وقَدَّره الحوفي: أَرَيْناه البراهين بذلك وقَدَّره ابن عطية: جَرَتْ أفعالُنا وأقدارُنا كذلك لِنَصْرِفَ، وقدَّره أبو البقاء نُراعيهِ كذلك.الثاني: أن الكاف في محلِّ رفعٍ، فقدَّره الزمخشري وأبو البقاء: الأمر مثل ذلك. وقدَّره ابن عطية عِصْمَتُه كذلك. وقال الحوفي: أَمْرُ البراهين كذلك، ثم قال: والنصبُ أجودُ لمطالبة حروف الجرِّ للأفعال أو معانيها.الثالث: أنَّ في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، تقديره: هَمَّتْ به وهمَّ بها كذلك، ثم قال: لولا أن رأى برهان ربه لنصرِفَ عنه ما همَّ بها هذا نصٌّ ابن عطية. وليس بشيءٍ، إذ مع تسليمِ جواز التقديم والتأخير لا معنى لِما ذكره.وقال الشيخ: وأقولُ إن التقدير: مثلَ تلك الرؤية أو مثل ذلك الرأي نُرِي براهينَنا لِنَصْرِفَ عنه، فتجعل الإِشارة إلى الرأي أو الرؤية، والناصبُ للكاف ممَّا دَلْ عليه قولُه: {لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} ولِنَصْرِفَ متعلِّقٌ بذلك الفعلِ الناصب للكاف.ومصدرُ رأى رُؤْية ورَأْي. قال:
وقرأ الأعمش: {ليَصْرِفَ} بياء الغَيبة، والفاعلُ هو اللَّه تعالى.قوله: {المخلصين} قرأ هذه اللفظةَ حيث وَرَدَتْ إذا كانت معرَّفةً ب أل مكسورةَ اللامِ ابنُ كثير وأبو عمرو وابن عامر، والباقون بفتحها، فالكسرُ على اسم الفاعل، والمفعولُ محذوف تقديره: المخلِصين أنفسَهم أو دينَهم، والفتح على أنه اسم مفعول مِنْ أَخْلصهم اللَّه، أي: اجتباهم واختارهم، أو أَخْلصهم مِنْ كل سوء.وقرأ الكوفيون في مريم: {إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا} [مريم: 51] بفتح اللام بالمعنى المتقدم، والباقون بكسرها بالمعنى المتقدم. اهـ.
ولذلك فإِنَّ الهمّة تحملُه على الرَّغبة في الباقى لِذاتِه، وهو الحقّ سبحانه، والباقى بإِبقائه وهو الدّارُ الآخرة، وتُخَلِّصه وتُمَحِّصه من آفات الفُتور والتَّوانى وكُدوراتها التي هي سبب الإِضاعة والتفريط.والدّرجة الثانية: هِمَّةٌ تورِث أَنَفَةً من المبالاة بالعِلَل والنُّزُول على العمل، والثِّقة بالأَمل.والعِلَل هاهنا الاعتمادُ على الأَعمال ورؤية ثمراتها ونحو ذلك، فإِنَّها عندهم عِلَلٌ، فصاحبُ هذه الهِمَّة تَأْنَفُ هِمَّتُه وقَلْبُه من أَن يُبالِىَ بالعِلَل، فإِنَّ همّته فوقَ ذلك، ففكرتُه فيها ومبالاتُه بها نزولٌ من الهمّة.وعدمُ هذه المبالاة إِمّا لأَنَّ العِلَل لم تحصل له؛ لأَنَّ علوَّ هِمّته حال بينه وبينها فلا يُبالى بما لا يحصل له، وإِمّا لأَنّ همّته وسَعَة مطلبِه وعلوّه تأْتى على تلك العِلَل وتستأْصلها، فإِنَّه إِذا عَلَّق همّته بما هو أَعلَى منها تضمّنَتها الهمّة العالية، واندرج حكمُها في حكم الهمّة العالية.وهذا محلّ عزيز جدًّا.وأَمّا الأَنَفَة من النُّزول على العمل فمعناه أَنّ العالِىَ الْهِمَّة مَطْلَبُه فوقَ مطلَب العُمّال والعُبّاد وأَعلى منه، فهو يَأْنَفُ أَن ينزل من سماءِ مطلَبِه العالِى إِلى مجرّد العَمَل والعِبادة دون السّفر بالقلب إِلى الله ليحصلَ له ويفوزَ به فإِنَّه طالبٌ لربّه تعالى طلبًا تامًّا بكلّ مَعْنَىً واعتبار في عَمَله، وعِبادَتِه ومناجاتِه، ونَوْمِه ويَقَظَته، وحَرَكَته وسكُونه، وعُزلته وخُلْطته وسائر أَحواله، فقد انصبغ قلبُه بالتوجُّه إِلى الله تعالى أَي ما صِبْغَة.وهذا الأَمر إِنما يكون لأَهل المحبّة الصّادقة، فهم لا يقنعون بمجرّد رُسوم الأَعمالِ وبالاقتصار على الطلب حال العَمَل فقط.وأَمَّا أَتَفَتُه من الثَّقة بالأَمَل، فإِن الثقة تُوجب الفُتور والتَّوانى، وصاحبُ هذه الهمّة من أَهل ذلك، كيف وهو طائرٌ لا يُصاد.والدّرجة الثالثة: هِمَّة تتصاعد عن الأَحوال والمعاملات، وتزول بالأَعواض والدّرجات، وتَنْحُو عن النُّعوتِ نحو الذات.والتَّصاعُد عن المعاملات ليس المراد به تعطيلها بل القيام بها مع عدم الالتفات إِليها.ومعنى الكلام أَنَّ صاحب هذه الهمَّة لا يقف على عِوَض ولا درجة، فإِنَّ ذلك نزولٌ من هِمَّته، ومطلَبُه أَعلَى من ذلك.فإِن صاحبَ هذه الهمّة قد قَصَر همّتَه على المطلب الأَعلَى الذي لا شئ أَعلى منه، والأَعواضُ والدرجات دونه، وهو يعلم إِذا حصل هناك حصل له كلُّ درجة عالية، وأَعْواضٌ شَتىَّ.وأَمّا نَحْوُها نَحْوَ الذات، فالمراد به أَنَّ صاحب هذه الهمّة لا يقتصر على شُهودِ الأَفْعال ولا الأَسْماءِ والصِفات بل ينحو نَحْو الذَّات الجامعة لمتفرّقات الأَسماءِ والصّفات والأَفعال.أُنْشِدنا لبعض الأَفاضل: وفى الحديث: «مَنْ هَمَّ بذَنْب ثمَّ ترَكَهُ كانت له به حَسَنَة» وقال أَيضا: «من اهْتَمَّ لأَمْر دينه كَفاه الله أَمْرَ دُنْياه»، وقال: «من أَصْبَحَ وأَكثر هَمِّه الدُّنْيا فلَيْسَ من اللهِ في شئ».وقيل: الطَّيرُ يطير، بجَنَاحِه والمرءُ يطير بهِمَّتِه وقال: وقد ذُكر الهمّ في القرآن في ثمانية مواضع: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ}، {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ}، {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ}، {إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ}، {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ}، {لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ}، {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا}، {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ}. اهـ.
|